إذا سلمنا بأن التضخم هو: (مقياس اقتصادي لنسبة التغير في متوسط مجموع السلع والخدمات خلال فترة معينة دون تغير حقيقي في انتاج هذه السلع او الخدمات) أو يمكننا القول بأنه (الارتفاع في المستوى العام للأسعار). فإننا نكاد نجزم بأنه أهم المؤشرات الاقتصادية التي تسعى كل دولة إلى استقراره والسيطرة عليه عبر بنوكها المركزية. حيث غالبا ما تمتلك البنوك المركزية - لأي دولة - الأدوات التي تمكنها من التحكم في مستوى تضخم معقول (2% الى 3% في معظم دول العالم) مما يدفع بعجلة النمو الاقتصادية.
وتتكون أدوات السياسة النقدية من:
1- سعر إعادة الخصم، وهو سعر الفائدة الذي يتقاضاها المصرف المركزي مقابل إعادة خصم الأوراق التجارية والأذونات الحكومية للمصارف التجارية، ويمثل أيضاً سعر الفائدة مقابل القروض والسلف التي يقدمها للمصارف التجارية.
2- سياسة السوق المفتوحة: وهو تدخُّل البنك المركزي في السوق المالية لبيع أو شراء الأوراق المالية بصفة عامة والسندات الحكومية بصفة خاصة؛ بهدف التأثير في عرض النقود حسب متطلبات الظروف الاقتصادية.
3- نسبة الاحتياطي النقدي القانوني: وهو نسبة الحد الأدنى من مجموع الأرصدة النقدية للمصارف التجارية التي يجب أن تودع لدى البنك المركزي.
ومن خلال هذا المقال سأتطرق إلى بعض آثار التضخم على الدول، والسيطرة على التضخم، وأثر ضريبة القيمة المضافة عليه.
وللتضخم آثار مدمرة على اقتصاديات الدول، ففي القرن الماضي بعد الحرب العالمية الأولى في عام 1922، أرغمت الأطراف المنتصرة في الحرب ألمانيا بدفع تعويضات تقارب ال 400مليار دولار، وهو مبلغ ضخم جدا في ذلك الحين؛ فاضطرت ألمانيا إلى طباعة مفرطة للنقود لتغطية العجز؛ وهذا ما سبب ارتفاعات مهولة في معدلات التضخم وبشكل سريع! تسببت في فقدان الثقة بالعملة الألمانية وانهيار القوة الشرائية حتى أن المقاهي في ألمانيا كانت تعلن عن الأسعار الجديدة للقهوة كل نصف ساعة! كما أن بولندا عانت من نفس المشكلة عام ١٩٩٠ حيث وصل معدل التضخم في بولندا إلى ٥٦٧٪! مما أفضى إلى نقص كبير في بعض السلع الأساسية مثل السكر، بل وصل الأمر إلى تفاقم أزمة عدم توفر بعض السلع الاساسية! ويذكر كتاب ديفيد بيشاسكي أن الجامعات في بولندا قامت بتوزيع لفافات ورق دورة المياه على أعضاء هيئة التدريس كهدية بمناسبة عيد الميلاد! ولكن في الوقت الحالي، تمكنت معظم الدول من السيطرة على التضخم من خلال كفاءة استخدام البنوك المركزية للسياسات النقدية التي سبق أن ذكرناها، وهذا الرسم البياني يوضح كيف سيطر البنك الفيدرالي الأمريكي على معدلات التضخم حتى في وقت الأزمات.
من خلال هذا الرسم البياني، نرى بأن المستويات كانت غالبا بين 2% و3% خلال 19 سنة الماضية، بما في ذلك وقت الأزمات المالية، مثلا في عام 2000 مع أزمة فقاعة الانترنت، ولكن الأزمة المالية في عام 2008أحدثت ضررا كبيرا في الاقتصاد؛ مما جعل التضخم يصل ال 4- في عام 2009؛ وقد أفضى ذلك إلى انكماش في الاقتصاد، وفقدان الكثير لوظائفهم، لكن سرعان ما تم التعامل مع هذه المشكلة من خلال الفيدرالي، وعودة مؤشر التضخم إلى معدل معتدل في السنة التي تليها.
نخلص إلى أن التضخم من أكثر الأمور الاقتصادية المقلقة بالنسبة لأي دولة، وتم عمل دراسات مستفيضة للبحث عن حل لهذه المشكلة، ولكن هل هذا يعني بأن التضخم هو أمر سلبي دائما؟ الجواب - قطعا – لا؛ لأن من فائدة أي اقتصاد أن يُحدث نموا معتدلا في الأسعار، وهذا ما يحدث بسبب التضخم على الرغم أنه أمرٌ غير محبب بالنسبة للمستهلك إلا أنه علامة على وجود اقتصاد سليم ومتنامي. وتاريخيا تميل الأجور إلى الارتفاع بنفس الوتيرة خلال التضخم. مما يعني أن وجود معدل منخفض جدا من التضخم أمر سلبي أيضا؛ وذلك بسبب أن عادةً ما يشير إلى أن الطلب على السلع والخدمات أقل مما ينبغي، وهذا يميل إلى إبطاء النمو الاقتصادي وخفض الأجور. يمكن أن يؤدي هذا الطلب المنخفض إلى ركود مع زيادة في البطالة - كما رأينا أثناء الركود العظيم.
ضريبة القيمة المضافة والتضخم في السعودية
يقسم الاقتصاديون التضخم إلى نوعيين مهمين: النوع الأول التضخم الرئيسي (Headline inflation): وهو التضخم الخام الذي يتم الإعلان عنه من خلال مؤشر أسعار المستهلك ((CPIالذي يتم اصداره من قبل كل دولة، وهذا هو المؤشر المستخدم عالميا. لكن هل هو دقيق؟ هذا السؤال ينقلنا إلى النوع الثاني وهو التضخم الأساسي (Core inflation) الذي يستبعد مكونات مؤشر أسعار المستهلك التي يمكن أن تُظهر تقلبات كبيرة من شهر لآخر، مما قد يتسبب في تشويه غير مرغوب فيه للرقم الرئيسي، وأكثر العوامل التي تتم ازالتها هي المتعلقة بتكلفة الطعام والطاقة مثلا إن تكاليف انتاج النفط من الممكن أن تتأثر بقوى خارجة عن العرض والطلب، مثل الأجندة السياسية فيتم استبعاد هذا العامل. لذلك يعتقد أن التضخم الأساسي يوفر رؤية أكثر وضوحا واستقرارا في السلوك العام للتضخم.
وهذا ما شهدناه في الاقتصاد السعودي بعد فرض ضريبة القيمة المضافة 5% في عام 2018 مما تسبب في حدوث قفزة في أسعار السلع والخدمات؛ وبالتالي ارتفاع في معدلات التضخم مقارنة بالعام 2017، ولكن هل يمكن أن نقول إن هنالك نموا في الاقتصاد؟ غالبا الجواب هو: لا وذلك لأن الارتفاع حدث بسبب الضريبة وليس بفعل قوى العرض والطلب، وهذا ما تجلى في الربع الأول من عام 2019 الذي شهد انخفاضا قدره 2,1% سنويا، وانخفاض 0,7% مقارنة بالربع السابق، وذلك نتيجة إلى التلاشي التدريجي لأثر تطبيق ضريبة القيمة المضافة على أغلب السلع والخدمات، كما أوضحت مؤسسة النقد في تقريرها عن الربع الأول، وهذا ما يجعل النظر إلى التضخم الرئيسي بعد فرض ضريبة القيمة المضافة من الممكن أن يتسبب في وجود مفاهيم خاطئة عن الاقتصاد للأفراد بل النظر الى التضخم الأساسي هو الأكثر صوابا في هذه الحالات.
نحن الآن في خضم ارتفاع ضريبة القيمة المضافة وفوائد أقرب إلى الصفر مما قد يسبب ارتفاع في معدل التضخم، ومع تزامن أزمة كوفيد19وتآثيرها المباشر على الاستهلاك فالسؤال الأهم ما مدى تأثير كل ذلك على نمو الاقتصاد السعودي في الأيام القادمة؟
قراءة 1275 مرات
آخر تعديل في الأحد, 12 يونيو 2022 09:26
في المحاسبين العرب، نتجاوز الأرقام لتقديم آخر الأخبار والتحليلات والمواد العلمية وفرص العمل للمحاسبين في الوطن العربي، وتعزيز مجتمع مستنير ومشارك في قطاع المحاسبة والمراجعة والضرائب.