في فترة سابقة كان من الطبيعي أن يصطدم خريج المحاسبة بسؤال: "تشتغل كاشير؟" واليوم يحضر منتدى المحاسبين الأول الذي أسدل ستاره قبل يومين 33 ألف شخص، تم تدشينه بحضور عدد من الوزراء الذين أكدوا اهتمامهم بمهنة المحاسبة لتحقيق ما يتطلع إليه الوطن، وأكد ذلك معهم المهنيون الرواد والمخضرمون أصحاب الفضل وأثنى عليهم من يقوم على المهنة اليوم بحضور وقودها في الأعوام المقبلة من طلبة ومهتمين.
يسجل بعضوية الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين التي تدير أحد أقوى المهن وأسرعها نموا وتطورا في العقدين الأخيرين في المملكة ما يتجاوز 18 ألف مهني ويدرس لها اليوم 17 ألف طالب في 31 مؤسسة تعليمية محلية. وهذا يعني أن المحاسبين أصبحوا اليوم في كل مكان بعد ما كان كثيرون يخلطون بين المحاسب وعامل النقد والخزانة أو من يربط المحاسبة بالرياضات، وهناك ما هو أدهى من ذلك من إساءة للفهم وهذه علامة واضحة كانت موجودة في السابق لضعف المهنة وضعف حضورها في الأوساط المختلفة.
لكن حتى مع ما تشهده المحاسبة من نمو شدد الدكتور ماجد القصبي وزير التجارة والاستثمار على الوضع الحرج الذي تعيشه، فكل هذه الأرقام لا تكفي؛ إذ الفارق لا يزال كبيرا بين العرض والطلب في سوق مراجعة الحسابات مثلا، وهو كذلك في سوق أعمال المحاسبة، ناهيك عن سحب كثير من المجالات الأخرى المرتبطة بالكفاءات (مثل الإدارة المالية وممارسات الإفلاس والتقييم وأسواق المال)، وشدد على ضرورة سد الفجوة التي لن تحصل إلا بالتنسيق الفعال والمستمر بين التعليم والتأهيل والمهنة.
وتفصيلا للأرقام التي ذكرت بأكثر من طريقة، يشكل عدد طلاب المحاسبة 4 في المائة فقط من جميع طلاب الجامعات السعودية، ولدى الهيئة السعودية 1012 فردا فقط من المجتازين لاختبار الزمالة، يعمل جزء كبير منهم في أماكن مختلفة -حكومية وخاصة- ويشتغل الجزء الآخر في مكاتب مراجعة الحسابات التي تبلغ حسب أحدث تقرير 226 مكتبا يعمل فيها 384 محاسبا قانونيا مرخصا. يفترض أن تقوم هذه المكاتب بتقديم مجموعة من الخدمات المتنوعة بما فيها خدمات المراجعة حسب المتطلبات النظامية لما يزيد على 150 ألف شركة وما يقارب مليون مؤسسة تجارية فضلا عن الكيانات الأخرى غير التجارية، وهذا بطبيعة الحال في الواقع الحالي مستحيل.
وكما تميز هذا المنتدى بالحضور الكبير والمفاجئ لكثيرين، كانت أنشطته متنوعة تناسب حضوره، كجلسات النقاش والمعرض المرافق والمسرح التفاعلي والزوايا للتعريف بتاريخ المحاسبة وبالشهادات المهنية وطريقة الحصول عليها، وورش العمل التي امتلأت وفاضت بالحضور حتى أصبح الحصول على مقعد مسألة صبر وانتظار. ما يسجل للمنتدى تركيزه على بعض المسائل المحورية التي نعانيها مثل المواءمة بين التعليم والمهنة، ومثل التطورات الأخيرة في المحاسبة الحكومية والتحول لأساس الاستحقاق، والأنظمة والتشريعات المتسارعة الأخيرة كالإفلاس والتقييم والتحكيم، والتقنية المالية. لكن غابت النقاشات المهمة في مواضيع الحوكمة وإدارة البيانات والذكاء الاصطناعي وغيرها، وهي مواضيع مهمة حاضرة في أعمال المهنة وممارساتها، وليس المقصود حل المشكلات أو تشريحها في مثل هذه الظروف، لكن على الأقل لفت الانتباه لها؛ لعلنا نراها في النسخة المقبلة وفي فعاليات أخرى.
مرت مهنة المحاسبة بعدة قفزات تاريخية كبرى على الرغم من عمرها الفتي، أزعم أنها بدأت بصدور نظام الدفاتر التجارية عام 1931 ثم إلزام الشركات بإعداد قوائم مالية ومراجعتها من قبل محاسب قانوني مرخص عام 1965، وصدور نظام المحاسبين القانونيين بعد ذلك ثم تأسيس جمعية المحاسبة السعودية حتى تأسيس الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين عام 1992. وفي الـ30 عاما الأخيرة كانت القفزة الكبرى للمهنة -ومجموعة أخرى من المهن القريبة أو الفرعية المرتبطة بالمحاسبة-، ونراها اليوم تكون نموذجا ومثالا للمهن الأخرى. كان منتدى المحاسبين الأول الذي أسدل ستاره قبل يومين محطة توقف أساسية بعد هذه القفزة الكبيرة التي حظيت بها الهيئة والمهنة. نتطلع ونرى في الأفق قفزات أكبر وإنجازات مقبلة أضخم بإذن الله.
في المحاسبين العرب، نتجاوز الأرقام لتقديم آخر الأخبار والتحليلات والمواد العلمية وفرص العمل للمحاسبين في الوطن العربي، وتعزيز مجتمع مستنير ومشارك في قطاع المحاسبة والمراجعة والضرائب.