المزارع بين فكي كماشة الاحتلال والسياسات الضريبية الفلسطينية
لطالما رددت الحكومات الفلسطينية المتعاقبة شعارات رنانة لدعم المزارعين وتثبيتهم في أرضهم، لحمايتها من غول الاستيطان، وتشجيع أحد أهم القطاعات الإنتاجية المهملة. لكن، هذه التوجهات بقيت في إطار الاستعراض، خصوصا أن حصة الزراعة

لطالما رددت الحكومات الفلسطينية المتعاقبة شعارات رنانة لدعم المزارعين وتثبيتهم في أرضهم، لحمايتها من غول الاستيطان، وتشجيع أحد أهم القطاعات الإنتاجية المهملة. لكن، هذه التوجهات بقيت في إطار الاستعراض، خصوصا أن حصة الزراعة من موازنة السلطة الفلسطينية لا تتجاوز 1%، بينما يساهم هذا القطاع بنحو 4% من الناتج المحلي الإجمالي. ليس هذا فحسب، بل يجد المزارع الفلسطيني نفسه مضطرا لترك أرضه، تحت وطأة سياسات فلسطينية غير محفزة للبقاء، ومنافسة المنتجات الإسرائيلية المدعومة من قبل حكومة الاحتلال.

 

شكل القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني رافدا اقتصاديا للشعب الفلسطيني منذ الستينيات والسبعينيات، وكان يساهم بما لا يقل عن 40% من الناتج المحلي الإجمالي. وعلى مدار الأربعين عاما الماضية دخل في معركة أدت إلى تدهوره، فانخفضت مثلا مؤشرات القطاع الحيواني إلى %3.6 في عام 2016. كان الحديث في حينه عن 1.5 مليون رأس من الضأن والماعز فانخفض العدد إلى النصف حسب اتحاد لجان العمل الزراعي في السنوات الأخيرة.

 

وقد كان القطاع الزراعي أكبر مشغّل للقوى العاملة بواقع 100 ألف عامل قبل عام 1990 أي 45% من القوى العاملة في القطاع الزراعي مقابل أقل من 10% في الوقت الراهن حسب الاتحاد. واقع  أدى إلى فقدان مئات العائلات لمصادر دخلها المتأتية من الثروة الحيوانية، الأمر الذي انعكس على الأمن الغذائي للمواطن الفلسطيني.

 

بالطبع لا يمكن إغفال سياسات الاحتلال المتمثلة  بمصادرة الأراضي خصوصا المصنفة "ج"، التي تشكل 61% من أراضي الضفة الغربية، في السابق كان متاحا أمام مربي الثروة الحيوانية قرابة مليوني دونم من الأراضي الرعوية، مقابل 500 دونم حاليا، وذلك بسبب زيادة الاستيطان وما رافقه من تغير مناخي وجفاف وخفض إنتاجية المراعي، وانتشار الأمراض، والتهريب من إسرائيل وعدم مقدرة السلطة في السيطرة على المعابر، وما نتج عن ذلك من إخلال بمعادلة العرض والطلب؛ أمور أدت إلى عدم قدرة المزارع على المنافسة والإنتاج مقابل مزارع إسرائيلي يحظى بكل أنواع الدعم والتشجيع.

 

في مقابل سياسات الاحتلال الإسرائيلي التي رجحت الكفة لصالح المستوطنين، لا يجد المزارع الفلسطيني أي نوع من الدعم والتشجيع، بل على العكس، يجد نفسه بين فكي كماشة تحكم الخناق عليه؛ قبضة الاحتلال وقبضة السياسات الضريبية الفلسطينية.

 

يرتكز الاقتصاد الفلسطيني على النظام الضريبي كبديل للتمويل، حيث اتبعت السلطة الفلسطينية سياسة زيادة الإيرادات الضريبية والتي تأتي من مصدرين رئيسيين هما، الضرائب المباشرة وتتمثل في ضريبتي الدخل والأملاك، والضرائب غير المباشرة وتتمثل في ضريبة القيمة المضافة وضريبة الشراء والرسوم الجمركية، وتأتي النسبة الأكبر من الإيرادات من الضرائب غير المباشرة. لكن السلطة الفلسطينية لا تملك صلاحية كبيرة لتعديل أو تطوير ضريبة القيمة المضافة، وضريبة الشراء والجمارك، التي تفرض على السلع والمستوردات الفلسطينية عبر الموانئ والحدود الإسرائيلية، بينما تتمتع بكامل الصلاحية لتعديل نظام ضريبة الدخل على الأفراد والشركات وفقا للخبير الاقتصادي نصر عبد الكريم. فشكلت الإيرادات الضريبية ما نسبته 91.5% من إجمالي إيرادات السلطة الفلسطينية خلال عام 2015 ، أي أنها تعتمد بالكامل على دافع الضرائب الفلسطيني لتمويل أنشطتها ونفقاتها.

إعفاء من الضريبة ولكن!

 

تشكل ضريبة القيمة المضافة المحلية، وهي الضريبة التي تحسب على جميع السلع والخدمات المستهلكة من المواطن،  التحدي الأكبر أمام المزارعين، لأنها تتسبب في ارتفاع تكلفة الإنتاج، حيث يعود عبء دفعها على المستهلك النهائي للسلع والخدمات، وتحسب وتُجبى من الشركات والأفراد المشتغلين والمسجلين في دوائر ضريبة القيمة المضافة، بعد أن يتم خصم ضريبة مدخلات الإنتاج والبيع لدى هذه الشركات، وفي المحصلة فإن صغار المزارعين غير المسجلين في دوائر الضريبة يتحملون أيضا أعباء هذه الضريبة بسبب جشع التجار وعدم توفير الحماية لأسعار مدخلات الإنتاج الزراعية.

 

وعلى وقع حراك مجتمعي ومطالبات من المزارعين، تم إعفاء المزارعين من ضريبة الدخل وفقا للقرار بقانون رقم  14  لسنة 2016  بشأن تعديل قرار بقانون ضريبة الدخل رقم 8 لسنة 2011 وتعديلاته، الذي نص على إعفاء المزارع إعفاء تاما من ضريبة الدخل على صافي الأرباح وإعفاء الشركات الزراعية من ضريبة الدخل على صافي أول 300 ألف شيكل من ضريبة الدخل،  لكن وعلى الرغم من إعفاء المزارع الفلسطيني من ضريبة الدخل، ما زال هذا المزارع يواجه تحديات في مجال الضريبة، وهذه التحديات متعلقة بآليات الاسترداد الضريبي وارتفاع  كلفة الإنتاج.

 

في غالب الأحيان لا تنطبق شروط فتح ملف ضريبي على صغار المزارعين، الأمر الذي يتركهم تحت رحمة التجار فيما يتعلق بأسعار مستلزمات الإنتاج، بالتالي هو يدفع ضريبة هذه المستلزمات مباشرة للتاجر الذي يحتسبها مباشرة من السعر النهائي لهذه المدخلات. فهو يدفع الضريبة على الإرساليات لأن التجار يحسبون الضريبة من ضمن سعر المدخل النهائي الزراعي، الأمر الذي دفع بغالبية صغار المزارعين للعزوف عن فتح ملفات ضريبية.

 

مربو الماشية غير معفيين

وبخصوص مربي الثروة الحيوانية فلم يشملهم الإعفاء، وهم مجبرون على دفع ضريبة القيمة المضافة بنسبة 16%. وبما أن %83  من الحيازات الزراعية عند الفلسطينيين هي حيازات صغيرة مساحتها أقل من عشر دونم للحيازة وفقا للمهندس الزراعي سعد داغر، فإن غالبية المزارعين يجدون أنفسهم خارج الاستفادة من الاسترداد الضريبي، الذي تستفيد منه في المقام الأول الشركات الكبرى والمزارعون الكبار.

 

ويعني الاسترداد الضريبي إعادة تحصيل أو استرجاع المبالغ التي تمت إضافتها لتكاليف المواد المشتراة ، وتسمى ضريبة القيمة المضافة، والتي يتم إضافتها على مدخلات الإنتاج الزراعي، مثل الأعلاف، الأدوية البيطرية، المبيدات بجميع أنواعها، المباني والمعدات، والتي يتم دفعها إلى دوائر الجمارك والضريبة  للسلطة الفلسطينية من خلال فواتير المقاصة الإسرائيلية .

ويقول الناشط في منطقة المالح بالأغوار الشمالية عارف دراغمة إن حوالي 400 مزارع في منطقته يواجهون صعوبة بالغة في الاسترداد الضريبي، نتيجة الإجراءات التي وصفها بالمعقدة. مناشدا بإعفاء مربي المواشي من الضرائب المترتبة على الأعلاف ومدخلات الإنتاج الأخرى خصوصا في منطقة مهددة كالأغوار.

 

ورد رافع ظاهر أبو الطيب، مساعد مدير عام الضريبة المضافة في وزارة المالية، أن الإعفاء قانونيا غير جائز، ويستوجب تعديلا في القوانين الضريبية المعمول بها. وبين أن التعليمات لديه بأن يقدم الاسترداد لمزارعي القطاع النباتي فقط إذا قاموا بفتح ملفات ضريبية وتقديم الفواتير اللازمة. مطالبا بتوعية المزارعين بالتسجيل في دوائر الضريبة للاستفادة من الاسترداد الذي يتم في غضون أربعين يوما. وأشار أبو الطيب إلى أن قيمة الرديات الضريبية في 2017 لمزارعي القطاع النباتي بلغت  13.6 مليون شيكل، وفي 2018 وصلت 11 مليونا. وبخصوص مربي الثروة الحيوانية فلا يحق لهم الاسترداد بموجب قرار صدر في 2011 نص على إلغاء قرار سابق كان يتيح لهم استرداد ضريبة القيمة المضافة، وأصبح المربون خاضعون لهذه الضريبة وقيمتها 16% .

 

واعتبر المهندس عمر الطيطي منسق برامج الثروة الحيوانية في اتحاد لجان العمل الزراعي، أن هذه السياسة تحد من تطور قطاع تربية الحيوانات وعزوف المربين عن الاستمرار في هذه المهنة وفتح الباب أمام مزيد من التدهور.  وطالب بمراجعة السياسات العامة المتعلقة بهذا القطاع، فبدلا من الإصرار على الضرائب، قال الطيطي: لا بد من فتح الاستثمار في هذا القطاع، لأن أي مستثمر يرغب في دخول نطاق الثروة الحيوانية يفكر ألف مرة، على اعتبار وجود مخاطرة وسياسات ضريبية تحد من التقدم. وبين أن "النقطة الأساس تتمثل في مراجعة كل القوانين وتخفيف أو حتى إلغاء الضرائب عن قطاع الزراعة، لو وجدت النية لدى الحكومة، فإنها في غضون ساعة ستقوم بتعديل القوانين لصالح مربي الثروة الحيوانية".

 

التدخل الحكومي ضرورة

واتفق مسؤول ملف الأغوار في محافظة طوباس معتز بشارات مع المهندس الطيطي، واعتبر أن بإمكان الحكومة التخفيف عن المزارعين بإعفائهم من الضرائب المفروضة على الأعلاف ومدخلات الإنتاج من أجل تمكينهم من الصمود في منطقة تتعرض لسياسات ممنهجة لسرقة الأرض.

 

وأمام هذا الحال، على الحكومة استشعار الخطر، والنزول من دائرة الشعارات إلى مربع العمل الفعلي، من خلال سياسات حقيقية تشجع المزارعين على البقاء، وتدفع بمن هجروا الأرض إلى العودة إليها. فمناطق الأغوار على وجه التحديد، تواجه حربا حقيقية من مستعمر لم يدخّر جهدا في مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات والتضييق على السكان. وتشير معطيات محافظة طوباس إلى وجود 11 مستوطنة زراعية تنعم بكل الدعم من مياه ومحفزات من أجل قتل أي منافسة من الممكن أن يفكر بها المزارع الفلسطيني. ليس هذا فحسب، فقد صادر الاحتلال 151 ألف دونم في العامين الماضيين، وهو يواصل إقامة المعسكرات وتوسيع تدريباته العسكرية من أجل قضم المزيد من الأراضي. فهل سنصحو قبل فوات الأوان؟

 

 

الشعارات الحكومية الفلسطينية الرنانة لدعم المزارعين وتثبيتهم في أرضهم، لحمايتها من غول الاستيطان، وتشجيع أحد أهم القطاعات الإنتاجية المهملة، بقيت في إطار الاستعراض، خصوصا أن حصة الزراعة من موازنة السلطة الفلسطينية لا تتجاوز 1%، بينما يساهم هذا القطاع بنحو 4% من الناتج المحلي الإجمالي. ليس هذا فحسب، بل يجد المزارع الفلسطيني نفسه مضطرا لترك أرضه، تحت وطأة سياسات فلسطينية غير محفزة للبقاء، ومنافسة المنتجات الإسرائيلية المدعومة من قبل حكومة الاحتلال.

في مقابل سياسات الاحتلال الإسرائيلي التي رجحت الكفة لصالح المستوطنين، لا يجد المزارع الفلسطيني أي نوع من الدعم والتشجيع، بل على العكس، يجد نفسه بين فكي كماشة تحكم الخناق عليه؛ قبضة الاحتلال وقبضة السياسات الضريبية الفلسطينية.

المطلوب من الحكومة الفلسطينية استشعار الخطر، والنزول من دائرة الشعارات إلى مربع العمل الفعلي، من خلال سياسات حقيقية تشجع المزارعين على البقاء، وتدفع بمن هجروا الأرض إلى العودة إليها.

موسومة تحت
قراءة 716 مرات

الموضوعات ذات الصلة

سجل الدخول لتتمكن من التعليق

 

في المحاسبين العرب، نتجاوز الأرقام لتقديم آخر الأخبار والتحليلات والمواد العلمية وفرص العمل للمحاسبين في الوطن العربي، وتعزيز مجتمع مستنير ومشارك في قطاع المحاسبة والمراجعة والضرائب.

النشرة البريدية

إشترك في قوائمنا البريدية ليصلك كل جديد و لتكون على إطلاع بكل جديد في عالم المحاسبة

X

محظور

جميع النصوص و الصور محمية بحقوق الملكية الفكرية و لا نسمح بالنسخ الغير مرخص

We use cookies to improve our website. By continuing to use this website, you are giving consent to cookies being used. More details…